«محتال ومتحرش» ينافس «كذابة ومتطرفة»
«محتال ومتحرش» ينافس «كذابة ومتطرفة»
العنوان أعلاه مليء بكلمات السباب كما ترى؛ وهو لا ينقل مقاطع من مشاجرة تجري في حارة مأفونة، أو هتافات تُسمع في مدرجات ملعب كرة قدم يشهد مباراة حاسمة، في أجواء تؤججها العصبية وسخونة المنافسة، ويغيب عنها الأداء المُمتع والجيد.
وعلى عكس المتوقع والمنطقي تمامًا؛ فإن العنوان أعلاه ينقل بعض أكثر العبارات ترديدًا في الحملتين الانتخابيتين اللتين تستبقان الانتخابات الرئاسية الأمريكية، المنتظر إجراؤها في شهر نوفمبر المقبل، وهي انتخابات تحظى، كما نعلم، باهتمام عالمي واسع، بسبب الكتلة الحيوية الضخمة التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية، وتأثيرها العالمي الممتد والحاسم في عديد الشؤون.
نعم.. هذا بالضبط ما يجري؛ فبعدما استخدم المرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب وصف «جو النعسان» للحط من شأن الرئيس الحالي جو بايدن، بموازاة دأب هذا الأخير على وصف الأول بـ«الخاسر والمُغفل»، دخلت نائبة الرئيس، والمرشحة الجديدة المُحتملة عن الحزب الديمقراطي، كامالا هاريس على الخط، فلم يتغير الكثير من قواعد المنافسة وآلياتها، بينما تغيرت مفردات الشتائم.
ثمة العديد من الأخطاء الشائعة عن الولايات المتحدة في عالمنا العربي، ومناطق أخرى من العالم، ومن ضمن تلك الأخطاء ما يتصل باعتقاد البعض بأن هذا البلد ما زال يقدم أفضل الممارسات الديمقراطية، ويعتمد نهجًا رشيدًا في إدارة التنافس على السلطة، وتداولها.
لم تعد الولايات المتحدة قادرة على تقديم أفضل الممارسات الديمقراطية، ولم تعد قادرة على إقناع العالم بأنها مُخلصة لتلك الممارسات، وما يؤطرها من قيم، خصوصًا ما يتصل منها بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان؛ وقد ظهر هذا واضحًا في مفاصل عديدة تتصل بالسياسة الخارجية غالبًا، وآخرها ما رشح عن سلوكها السياسي في أزمتي روسيا وأوكرانيا، وحرب غزة.
كما يبدو أيضًا أنها فقدت قدرتها على الإلهام والإقناع، في ما يتصل بإدارة التنافس السياسي، والانتقال السلس للسلطة، منذ ما جرى في انتخابات ٢٠١٦، ثم ما حدث عند اقتحام مبنى الكابيتول في ٢٠٢١، وصولًا إلى محاولة إبعاد ترامب عن المنافسة، ثم محاولة اغتياله، في وقت سابق من هذا الشهر.
كانت الولايات المتحدة كلها تقف وتتابع إعلان الرئيس بايدن عزمه خوض الانتخابات الرئاسية لولاية جديدة، وكان الحزب الديمقراطي يمنحه بطاقة الترشح، بينما الجميع يعرف أنه مشوش ومريض وصحته هشة ومن غير الممكن أن يؤدي وظيفته على النحو المطلوب بأي صورة من الصور.
وعلى الجانب الآخر، كانت الولايات المتحدة كلها تقف وتتابع إعلان ترامب عزمه خوض الانتخابات، وحصوله على بطاقة ترشيح الحزب الجمهوري، بينما الجميع يعلم سجله الجنائي، ومساره السياسي، وتوجهاته الإنسانية أيضًا، بكل ما تنطوي عليه من عوار وخلل.
بايدن «النعسان»، أو ترامب «المحتال والمتحرش»، أو كامالا هاريس «الكذابة واليسارية المتطرفة»، ليست سوى تعبيرات واضحة عن المأزق الذي باتت فيه الولايات المتحدة، وعن العطب الذي ضرب ديمقراطيتها، وقادها إلى هذا المشهد العبثي النادر.
محاولة الاغتيال الفاشلة التي واجهها ترامب ليست سوى إشارة إلى المنحى العنيف الذي يتخذه مسار التنافس السياسي في هذا البلد، وهو مسار كان قد أعلن عن وجوده في يناير ٢٠٢١، عندما اقتحم أنصار الرئيس السابق مبنى الكابيتول، وهو مسار يؤسس لوجوده، وربما تصاعده، في حال لم ينجح ترامب في الانتخابات المنتظرة.
تنازل بايدن عن الترشح، ومحاولة هاريس الفوز ببطاقة ترشيح الحزب، وعدم اقتناع البعض بأهليتها للتصدي لترامب في هذه المنافسة، خصوصًا بسبب ضعف خبراتها في السياسة الخارجية؛ كلها عوامل تشير إلى خلل في التجربة الحزبية الأمريكية، وعدم قدرتها على فرز القيادات المناسبة، وتأهيلها بصورة مُقنعة لخوض الاستحقاقات المُبرمجة سلفًا.
يعتقد البعض أن كتاب ترامب الأخير «أنقذوا أمريكا»، أو شعار حملته الأساسي «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، مجرد تعبير دعائي يستهدف الترويج، لكن الواقع يشير إلى أن مثل هذه الأقوال إنما تعكس هواجس تسود بين الجمهور؛ مفادها أن البلد في حاجة إلى إنقاذ، وأنه لم يعد عظيمًا كما كان سابقًا.
لسنا في الشرق في موضع يسمح لنا بانتقاد الديمقراطية في الولايات المتحدة أو أوروبا أو كندا أو اليابان، ومهما انطوت تجارب تلك البلدان في الممارسة الديمقراطية على عيوب فستظل أفضل بكثير وأكثر فاعلية مما نحن عليه، لكن الإنصاف يقتضي أيضًا الإشارة إلى أن الديمقراطية الأمريكية في تراجع كبير، وأن وصلات الشتائم التي تهيمن على الخطاب الانتخابي في هذا البلد، إنما تعبر بصدق عن مدى المأزق الذي يراوح فيه.
نقلاً عن صحيفة المصري اليوم